الأحد، 5 يناير 2014

* أروع لحظات القرب من الله :: " ركعتان " لا ترجو بها إلا رضاه || { صلاة ركعتين } » الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد 

وعلى آله وأصحابه الكرام أجمعين ومن تبعهم بإحسآن إلى يوم الدين ..

روعة الحياة و سعادتها حينما تعيشها في محراب الصلاة بقلب مُنيب خشوع

عندما تسمو روحك لموعد مع الله جل في علاه و ترجو من عفوه و كرمه و رضاه

في أمتع و أروع لحظات الحب و القرب من الله جل جلاله و الأنس بذكره و مناجاته

أحب أن اقدم لكم صورة من صور الصلاة عاشها الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله

و سطرها بقلمه في كتابه " صلاة ركعتين "

هذه مقدمة بسيطة عما يجول في خاطري عندما قرأت الكتاب

تجربة فريدة ستعيشها معه .. و سيؤثر بإذن الله في صلاتك و في خشوعها

أترككم مع كلام الشيخ رحمه الله ،، بسم الله نبدأ .. 


* * *



أكثرنا لا يصلي و إنما يقوم و يقعد و يركع و يسجد و إنّ العامل الذي يذهب ليقابل رئيس الشركة

و المعلم الذي يمضي ليدخل على وزير المعارف، و كل من يكون منا على موعد من رئيس أو أمير

أو ملك يستعدّ لهذه المقابلة بزيّه و ثيابه و يهتمّ بها بفكره و قلبه أكثر مما يستعدّ للصلاة و يهتمّ بها.

و هذه الحقيقة لا نستطيع أن ننكرها (مع الأسف)، مع أنّ المصلي إنما يدخل على الله ملك الملوك

و مَنْ كل خير عنده، و كل أمر بيده، و مَنْ إن أعطى لم يمنع عطاءه أحد و إن حَرَم لم يعطِ بَعده أحد.

و إن كان مَن يدخل على الملك المطلق، لا يفكر في سؤال حاجته وزيرًا أو عاملًا بل يسأل الملك

الذي يأمر الوزير و العامل، فكيف نقوم بين يدي الله و عقولنا متعلقة بغيره و أفكارنا مشتغلة بسواه

نرجو النفع من البشر، و نخاف منهم الضرر، و لا يخطر على بالنا أن نتوجه إلى الله الذي نقوم

بين يديه، نطلب منه هذا الذي ينفعنا و نسأله دفع ما يضرنا؟

و نحن نتلو بألسنتنا ما لا تصغو إليه قلوبنا و لا تعيه عقولنا، فلا تكون صلاتنا إلا رياضة للأعضاء

و تحريكًا للسان مع أنّ هذه الرياضة كالجسد من الصلاة و الخشوع هو الروح.. فكيف تصعد صلاتنا

إلى الله و هي جسد بل روح؟ و هل تطير جثة لا حياة فيها ؟

و أنا لا أصف لكم الصلاة الكاملة، التي كانت قُرّة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم
، الصلاة

التي تنهى عن الفحشاء و المنكر و يكون لها الأثر الدائم في سلوك صاحبها و في أخلاقه و طباعه

الصلاة التي يحسّ صاحبها القوة بالله
فلا يخشى في الحق أحدًا و يستشعر الضعف أمام الله

فلا يحاول التعدّي على أحد .

لا، و لكن أصف لكم أدنى درجات الخشوع في الصلاة، و هي أن يفكر المصلي

في معاني ما يتلو، و أن يتدبر بقلبه ما يتحرك به لسانه.


**

و مكانه و ذكر أنّ الله لا تخفى عليه خافية، و أنه يعلم السرّ و أخفى و أنه لا ينظر إلى الصور

وحدها و لكن إلى النيّات و السرائر، لم يكتف بتطهير ظاهره من الأنجاس الماديّة حتى يطهر قلبه

من الأرجاس المعنوية، من الشرك و الرياء و الطمع و الحسد .. و هاتيك الأوضار كلها.

ثم يستقبل القبلة، فيتصور الكعبة أمامه لا يستقبلها على أنها صنم يعبد أو على أنها تنفع أو تضر

بل لأنها هدف جامع ينظّم المسلمين في أرجاء الأرض في دوائر تقترب و تبتعد لا تمنعها الجبال

و لا الصحارى و لا البحار، من أن تلتثم و تستدير حول هذا الهدف ثم تتراصّ بنظام و إحكام

كجيش مستعد لبذل الروح و المال إرضاءً لله و إعلاء لكلمة الله و إقرارًا للعدل و الخير

و الفضيلة في هذه الأرض .

و يحاول أن يُحضِرَ في نفسه بواعث الخشوع، فيتصور أن قد انقضت هذه الحياة و هي حتمًا

إلى انقضاء و أن قد جاء يوم الحساب، و هو قادم لا محالة، فيبصر الصراط أمامه و الجنة عن يمينه

تدعوه بنعيمها المقيم، و النار على شماله تلوّح له بعذابها الدائم.

ثم يفكر في عظمة الله، فتهون حيالها الدنيا و الآخرة و الجنة و النار؛ لأنه أكبر منها و من كل ما يخطر

على العقل البشري من كائنات، هو أوجدها من العدم بكلمة، و هو قادر على أن يذهب بها بكلمة

و يرفع يديه حيال أذنيه كأنما يطرد شواغل الدنيا عن ذهنه و يقول من أعماق قلبه: (الله أكبر)

و بذلك يكون قد وقف أمام الله.

**

و لو تُرِكَ البشر لعقولهم، لما استطاعوا أن يُحصوا الثناء على الله، فكان من نِعَم الله على

المسلم أن عَلّمه كيف يرفع التحية إلى ربه في مطلع صلاته، و كيف يُثني عليه.

فهو يقول (سبحانك اللهم و بحمدك)، و معنى التسبيح: التنزيه، تنزيهه تعالى عن كل مايمرّ في

فكرك من الصفات البشرية المادية (كل ما يخطر على بالك، فالله بخلاف ذلك).

أو يبدأ بالتوجه إلى الله: ( وجهت وجهي )

لمن؟ لبشر أو حجر؟ لا، بل ( لله الذي فطر السماوات و الأرض) و كل ما فيها من خلائق.

فإذا استوفى التحية يطلب حمايته أولًا من عدو البشر الألدّ، الذي يتربص به، يزيّن له الشر و يحبب

إليه المعصية، و يفضّل له هذه الدنيا الزائلة، و لذّاتها الذاهبة، على الآخرة الدائمة و نعيمها المقيم

و يسألُه أن يعيذه منه، حين يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

ثم يعلن الابتداء باسم ربه:{ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ} ..

لا باسم جلالة الملكة كما يقول الإنكليز و لا باسم الشعب كما نقول نحن و لا باسم صنم و لا وثن

و لا باسم رابطة قومية أو حزبية أو رابطة منفعة أو مال، بل بما هو أعلى من ذلك كله و أعظم و أسمى.

بما تُمّحي أمامه فروق اللون و الجنس و اللسان، و ما تسكت أمامه أصوات الشهوة و السيطرة و الجاه

و الغنى، و ما يعود البشر أمامه عبيدًا سامعين مطيعين متجردين للفضائل و الخيرات: (باسم الله).


**

ثم يقرأ الفاتحة، و لكل كتاب بشري فاتحة: مقدمة تُجْمِلُ مقاصده، و تُوضح مطالبه و هذه مقدمة

الكتاب الإلهي الباقي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي نزّله الله و تعهّد بحفظه.

{ الْحَمْدُ للّهِ }: الحمد لله على نعمه التي لا تحصى: نعمة الحياة، نعمة الصحة
، نعمة الأمن

نعمة السمع و البصر، نعمة الأهل و الولد.

إن الإنسان لا يعرف قيمة النّعم إلّا عند فقدها أنّ سدّ أنفك الزكام عرفت قيمة الشم و إن أغلق

عينك الرمد عرفت قيمة البصر، و إن دهمك الخوف عرفت قيمة الأمن، و إن لُوِيَتْ قَدَمُك فلم تقدر

أن تمشي عرفت قيمة الرّجل فتصوروا هذه النعم حين تقولون: (الحمد لله).

{ رَبّ الْعَالَمِين}: هلّا تعرفون معنى الرب؟ ليس معناها الحاكم و لا الملك و لا الإله
، الربّ فيها معنى

العناية و التربية، و الحفظ و الإنماء
، الربّ المربي و العالَمون جمع عالَم، فعالَم الأرض، عالَم النجوم

وعالَم السماء، وعالَم الجن
، وعالَم الشياطين، وعالَم الملائكة والعوالم كلها هو حافظها و موجدها

و مربيها. فتصوروا هذه المعاني كلها، حينما تقرؤون هذه الكلمات الأربع: { الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِين}.

{ الرّحْمنِ الرّحِيمِ }: وصف نفسه بالرحمة، و كرّرها لتكرّر رحمته، و لم يقل الجبار المنتقم

و لا القوي العزيز و لكن:{الرّحْمنِ الرّحِيمِ} .

أشعرنا رحمته
، التي وسعت كل شيء؟ أَتَرَوْن رحمة الأم بولدها الذي تُرضِعُه على صدرها؟

إن الله أرحم بعباده منها بولدها، إن الأم إذا أساء إليها ولدها، أو خالفها، أو استعمل مالها في

معصيتها
، هجرته و حجزت المال عنه، و الكافر يستعمل لسانه الذي أعطاه الله إيّاه في الكفر بالله

و الله يرحمه و يرزقه و يحسن إليه. و إن الله أنزل في الدنيا رحمة واحدة فيها يتراحم الناس

و تعطف الأم على ولدها والأخ على أخته والرجل على امرأته و أبقى تسعًا وتسعين ليوم القيامة

و رحمة الله هذه من أَوْل النعم التي تستحق الحمد.

بعد أن يقول العبد في الصلاة {الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ.الرّحْمنِ الرّحِيمِ} ويستشعر رحمة الله

يقول: { مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ } .. فيستشعر عظمته، ليعلم أن الله رحيم فلا ييأس من رحمته

و أنه جبار فلا يأمن بطشه.

و يومُ الدين هو يوم القيامة، يوم يقف الناس جميعًا: من قُتل في الحرب و مَن مات على فراشه

و الذي أكله السّبُع، و الذي غرق في البحر، و الذي احترق و صار جسده فحمًا يجمعهم الله جميعًا

الأوّلين و الآخرين، فيقف الملك بجنب الصعلوك و الغني بجنب الفقير
و تسقط الفوارق ولا يبقى من

فرق إلا بالعمل الصالح، هنالك ينادي المنادي: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} للسلاطين؟ للجبارين؟ للأغنياء؟

لا، بل { لِله الْوَاحِدِ الْقَهّارِ }.. ذلك هو رب العالمين، و مالك يوم الدين .


**

{ إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ } ، أي : لا نعبد إلا إيّاك ، و لا نستعين إلا بك .

و العبادة في كل ما فيه إقرار بالربوبية للمعبود : فالصلاة عبادة، و السجود عبادة و الدعاء عبادة

و الطواف بالقبور بنيّة التعظيم و قياسًا على طواف الكعبة لغير الله

و الاستعانة هنا هي الاستعانة بما هو وراء الأسباب، فلا تُمنع الاستعانة بالطبيب على وصف الدواء

و لا الاستعانة بالمحامي على حسن الدفاع، و لا الاستعانة بأرباب الصناعات
، بل الاستعانة المنوعة

إلّا بالله وحده هي طلب ما وراء الأسباب، كمن يطلب من غير الله أن يشفي مريضه بلا علاج

أو يُرجع فقيده بلا بحث، أو يُطلق سجينه بلا شفاعة
، أو يُفرّج كربه بغير سبب مادّي .

بعد أن حمدت الله على نعمه و عرفتَ بأنه رب العالمين و أنه أرحم الراحمين وأنه هو مالك يوم الدين

و بعد أن نزهته عن الشريك (الشرك الظاهر و الشرك الخفي) و خصصته وحده بالعبادة

فإن الله يعلمك كيف تطلب منه ما ينفعك و قد أجمل لك الخير كله في كلمة واحدة: {الصّرَاطَ المُستَقِيمَ}.

{ اهدِنَا الصّرَاطَ المُستَقِيمَ }: أي: دُلّنا على الطريق الموصل إلى كل خير في الدنيا و في الآخرة.

{صِرَاطَ الّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيِر المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضّالّيَن}:المغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يتبعوه

و منهم اليهود و الضالون لم يعرفوه، و لم يتبعوه، و منهم النصارى.

و الذين أنعم الله عليهم عرفوه، واتبعوه، و هم الأنبياء و الصدّيقون و الشهداء و الصالحون.

(آمين)؛ أي: اللّهم استجب لنا، و تقبّل دعاءنا.

**

ثم يقرأ السورة متدبّرًا معناها مفكّرًا فيها ولنختر لك سورة من أقصر سور القرآن (الماعون)

و في هذه السورة بيان ثلاثة أصناف من الناس:

الصنف الأول: الذين يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه و سلم
، و هؤلاء يتصفون أبدًا

بالكمالات الإنسانية، و يجمعون أطراف الخُلُق الكريم.

الصنف الثاني: الذين يؤمنون ولكن لا يعملون بما يؤمنون به و لا يحافظون عليه
، فهم ينسون

الصلاة و يمتنعون عن القيام بأيسر أعمال الحير، و هو إعارة ماعونٍ للجار.

الصنف الثالث: المكذبون بالدين، الذين فقدوا مزايا الإنسان، حتى إنهم لَيَقْسون على اليتيم

و لا يبالون بالعطف على المسكين.

{أَرَأَيْتَ الّذِي يُكَذّبُ بِالدّينِ}: الخطاب من الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه و سلم يقوله له:

ألا تعجب من هذا الذي يكذب بالحقائق الظاهرة و ينكر بلسانه ما يصدّق به قلبه و يؤمن به عقله؟

و هل في الحقائق كلها ما هو أثبت من وجود الله؟

و هل في طريق الخير ما هو أقرب و أظهر من هذا الدين؟

{فَذَلِكَ الّذِي يَدُعّ الْيَتِيمَ}: أي لا يقسو عليه و لا يرحم ضعفه و تلك هي نتيجة للتكذيب بالدين

و ملازمة له. {وَلَا يَحُضّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}: و لا يرغب فيه، و لا يفكر في آلام غيره ما يهمه

في الحياة إلّا نفسه، و هذا هو النموذج للصنف الثالث.


**

أما الصنف الأول: فَيُفْهَمُ من هذه الآيات، فكما أن المكذب بالدين، يدعّ اليتيم و لا يحض على

طعام المسكين، فالمُصدّق بالدين، يرحم الايتام و يهتم بإطعام المساكين و يكون عاملًا على كل

ما فيه الخير للناس.

و الصنف الثاني: ضرب الله مثلًا عليه، المصلّين الذين يسهون عن صلاتهم تهاونًا بها و اشتغالًا عنها.

{ فَوَيْلٌ }: و الويل كلمة العذاب، {لّلْمُصَلّيَن (4) الّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6)}

أي: أن صلّوا صلاتهم، لا يقصدون بها وجه الله {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}: لأن من صفاتهم أنهم لا يُقدّمون

لأحد خيًرا مهما قلّ فمن غفل عن صلاته ثم تاب و أدّاها مخلصًا لا مرائيًا

و كان ممن يحب الخير، لم يكن من هذا الصنف.

**

ثم يقول: (الله أكبر) و يركع، ينحي رأسه ليجمع بين الخشوع المادّي و المعنوي خشوع الجوارح

و خشوع القلب. و قد جُعلت (الله أكبر) شعار الصلاة، يرددها المصلي عند كل حركة، لتكون سلاحًا

بيدك، فكلما وسوس إليك الشيطان، و قال لك: عجّل في صلاتك فإن فلانًا ينتظرك و هو كبير في الناس

قلت: أسكت و اخنس، فإني بين يدي الله و (الله أكبر). و إن شغل فكرك بتجارة أو ربح، أو لذّة أو متعة

أو رغبة أو رهبة، قلت: (الله أكبر).

و تسبّح الله ربك العظيم، ممتلئًا قلبك بتنزيهه و التفكير في عظمته و تخرج من جسدك ومن مطامع

دنياك
، و يكون الشرع هو الذي يتكلّم على لسانك، يقول لك مبشرًا: (سمع الله لمن حمده)

فتقول أنت مستبشرًا فرحًا: (ربنا لك الحمد).

ثم يكون سجودك، تعبيًرا آخر أقوى و أظهر، على خضوعك و استسلامك، تضع جبينك خضوعًا لله

على الأرض، فتقول: (سبحان ربي الأعلى)، فيجمع الله لك لذة العبودية بهذا الخضوع و لذة العزّة

بهذا التسبيح، و تذوق حلاوة الإيمان و لذلك جاء: (إنّ العبد يكون أقرب ما يكون إلى الله و هو ساجد ).


**

ثم تعود، فتقرأ الفاتحة، و سورة أخرى. ولنأخذ سورة قصيرة من ثلاث جمل صغار ولكنها تصلح

أن تكون دستورًا للفرد و للجماعة، من خلال صلح الفرد و الجماعة لم تترك بابًا من أبواب

الخير إلا فتحته، و لا خلّة من خلال صلاح الفرد و الجماعة إلا تعرضت لها
، حتى أن من العلماء

من قال (و أظن أن القائل هو الشافعي): لو لم يُنْزِلِ الله من القرآن إلا هذه السورة لكفت الناس.

و من معجزات القرآن، أنه جمع تلك المعاني كلها في آيات ثلاث صغار، هي:

بِسْمِ الْلّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

{ وَالْعَصْرِ (1) إِنّ الِإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ

وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصّبْرِ (3) }

و أنا لا أسرد أقوال الناس في العصر هل هو الدهر، أو هو وقت العصر أو هو صلاة العصر
، لأنّ الله

كشف لي معنى آخر، هو أنّ العصر: الزمان، و كل إنسان يخسر بفعل الزمان.

يخسر عمره، إذ لو كان مقدرًا له أن يعيش سبعين سنة، فأنه يخسر سنة منها كلما عاش سنة

و يخسر شبابه، و يخسر قوته، ثم ينتهي بمرور الزمان إلى الموت فيخسر كل شيء حتى الحياة

و لا يبقى له إلى الإيمان و العمل الصالح.

فالإيمان – كما أفهم – يتعلق بصحة المذهب، و العمل الصالح يتعلق بالتطبيق و المعنى: أنّ على

الإنسان الذي يريد اجتناب الخسارة، أن يبني مذهبه في الحياة على معرفة الحق من الباطل

و يؤمن بالحق وحده، فيكون صحيح النظر و الفكر و أن يطبق الحق الذي عرفه و آمن به على حياته.

و هذا دستور شامل لحياة الفرد العقلية و العملية و من عرف الحق و عمل به فقد بلغ

أعلى درجات الكمال.

و في الآية الثالثة دستور لحياة الجماعة، فلا يكفي أن يعرف الفرد الحق في نفسه
، بل ينبغي أن

يوصي غيره به و يدُلّه عليه، و لا يكفي أن يعمل به وحده بل لابدّ من التواصي على العمل الجماعي

و الصبر على مشاق هذا العمل.


**

و هنا تعليقات ثلاث لا بدّ منها:

الأولى: أن القَسَم من الناس لا يكون إلا بالله، لا يجوز لم الحلف بغير الله أصلًا لأن هذا الحلف

يدلّ على التعظيم المطلق و العبادة، أما قَسَم الله في القرآن بأشياء مخلوقة: والعصر، و الضحى

و الليل، و السماء. فهو للدلالة على مزايا فيها و لفت الانظار إليها.

الثانية: أن أُولى الحقائق التي ينبغي أن يؤمن بها الإنسان لينجو في الآخرة هي: وجود الله


و أن له وحده الَخلقُ و له الأمر، و هو المخصوص بالعبادة، ثم التصديق برسالة محمد

صلى الله عليه وسلم و العمل بها.

الثالثة: أن الصبر أنواع، منها: الصبر على المصيبة: و الدنيا مملوءة بالمصائب، و لا ينجو منها أحد

من نكبة في صحة أو مال أو موت، أو فقد قريب. و لا عزاء عنها إل بالتواصي بالصبر، و ذكر ثواب الله

للصابرين، و لعله إذا اطّلع على ما أعدّ الله له فرح بالمصيبة، كمن يذهب ماله أو يخرب بيته في

زلزال أو حريق، إذا عوضته الحكومة ثمنه أضعافًا فرح بذهاب المال و خراب الدار.

و الصبر على ألم الطاعة: فمن ترك فراشه الدافئ و قام إلى صلاة الصبح في ليالي الشتاء يتألم

و من قهر نفسه على إخراج الزكاة يتألم ولكنه إن ذَكَرَ ثواب الله وصَبّرَ النفس تحوّل هذا الألم إلى لذة.

و الصبر على المعاصي: و هذا أصعب أنواع الصبر، و هو الإمتناع عن لذة المعصية مع القدرة عليها

كالموظف الذي يرى زملاءه يرتشون و يسرقون هو يقدر على ذلك و لكنه يمتنع عنه و يصبّر نفسه.

و الشاب الذي يرى التبرج و الإغراء و يسمع من إخوانه أحاديث مغامراتهم الغرامية ولكنه يمتنع عن

مجاراتهم خوفًا من الله، ويصبّر نفسه إنّ الله يُظِلّّه بظلّ العرش يوم الموقف الأكبر

يوم لا يجد الناس ظُلّة و لا وقاية من أمر الله.

**

ثم يكبّر و يركع و يسجد، فإذا فرغ من هذا كله، قعد يرفع إلى ربه تحية الخروج من الصلاة كما

رفع في أولها تحية الدخول فيها، فأثنى على ربه الذي توجّه إليه وحده مخلصًا له مريدًا ثوابه

طالبًا منه كل خير يريده، ثم صلّى على رسوله محمد صلى الله عليه و سلم الذي كان واسطة

هذا الخير، ثم سلّم على نفسه التي تطهرت بهذه الصلاة، و على عباد الله الصالحين.

و هذه أعظم مكافأة للمصلّي، أن يكون من الصلاة تحية نفسه مع تحية الله و رسوله ثم يجدد

البيعة و يؤكد العهد بترديد الشهادة لله بالوحدانية، و لمحمد بالعبودية و الرسالة

ثم يطلب ما يشاء من الحاجات، فيبدؤها بسؤال الله الرحمة و السلام والبركات على من كانت

هذه النعم عن يديه محمد صلى الله عليه وسلم مصليًا الصلاة الإبراهيمية و هي أفضل صيغ

الصلاة على الرسول على الإطلاق، و يسأل لنفسه و للمسلمين.

ثم يعود بالسلام (السلام عليكم و رحمة الله)، و يعود إلى هذه الدنيا و لكن بغير النفس التي

تركها بها
، يعود و في قلبه حلاوة الإيمان، و لذّة المناجاة، و هذه المعاني التي أثارها فيها ما تلا

من قرآن و ذِكر و هذه الخشية التي أحسّ بها و هذه القوة التي استشعرها.


 
 
* * *


هنا انتهى كلامه رحمه الله بعد ان عشنا ركعتين من اروع ما يكون

اتمنى لي ولكم الفائدة من هذا الموضوع ويكون محفز لنا لتأدية صلواتها

على الوجه المطلوب .. وتكون قرة لعيوننا و راحتنا وملاذنا من كل ما يضيقنا


و لتحميل الكتاب " صلاة ركعتين " بصيغة PDF من هنا


اتمنى ان ينال الموضوع على إعجابكم
و ان شاء الله لنا لقاء آخر عما قريب

لكم مني أطيب و أزكى و أجمل التحايا ..
استودعكم الله

**


هناك تعليقان (2):

  1. السلام عليكم و رحمه الله و بركاته ..
    رائع جداً موضوعك قرأت جزء منه
    و إن شاء الله أكـــــــــمل قرأءه البقيه ..
    كان للكلامات وقعا في نفــــــــــسي ..

    جـــــــــــزاك الله خـــــــــــــيراً ..

    بإنتظار كل جديد مواضيكم الراقيه و المفيده ..
    مــــــــــــوفقين ..

    ردحذف
    الردود
    1. و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته ,,
      اهلا و مرحباً اختي شيرو .. حياك الله ^^
      دائما ما تنيري مواضيعنا بطلتك و مرورك المميز
      كلمات رائعة للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله و اسكنه الجنة
      اسأل الله ان ينفعنا جميعاً بها
      شكرا لك على ردك الجميل .. الله يسعدك في الدنيا والاخرة ^^

      حذف

شارك بـ رأيك وأترك خلفك بصمة ..~